ما كان يخشى منه الكثيرون حصل، إذ لم تكتفِ إسرائيل بالمجازر التي ارتكبتها على امتداد الأيام الماضية، بل أصرّت على استكمالها بعدوانٍ غير مسبوق وغادر ومفاجئ افتتحت به أول أيام الأسبوع، واستهدفت فيه عشرات البلدات والقرى في عمق الجنوب والبقاع، ما أدّى إلى استشهاد وإصابة المئات، معظمهم من المدنيّين خلافًا لكلّ الادعاءات والمزاعم، على مرأى ومسمع العالم، الذي يبدو أنّه اختار مرّة أخرى أن يلوذ بالصمت.
جاء هذا العدوان الهمجي والوحشي، وما انطوى عليه من استهدافٍ "عشوائي" للأحياء السكنيّة، التي لم يكن سكّانها قد غادروها بعد، بعد أسبوعٍ يكاد يكون "الأثقل" على "حزب الله"، ليس منذ فتح جبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين الأول الماضي، بل منذ حرب تموز 2006، وربما منذ نشأته بالمُطلَق، بفعل الضربات القاسية وغير المسبوقة التي تكبّدها، والتي ترتّبت عليها فاتورة بشرية ونفسية هائلة، وولّدت شعورًا بالإحباط الممزوج بالغضب لدى بيئته الحاضنة، وحتى في صفوفه إن جاز التعبير.
تجلّى ذلك بوضوح بعد "مجزرتي الثلاثاء والأربعاء" غير المسبوقتين، حين استُهدِفت أجهزة الاتصال التي يحملها الكثير من عناصر الحزب في وقتٍ واحدٍ، ما أدّى إلى استشهاد وإصابة الآلاف على امتداد المناطق اللبنانية، في اختراقٍ وصفه الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله بغير المسبوق في تاريخ المقاومة، وإن حاول رفع معنويّات الجمهور، عبر طمأنته إلى أنّ ما حصل لم يضعف المقاومة، تاركًا لما وصفها بـ"الدائرة الضيّقة" أمر الردّ.
لكن، ما هي إلا ساعات، حتى جاء الخرق "الأخطر"، مع استهداف "جماعي" لهذه "الدائرة الضيقة" إن جاز التعبير، عبر مجزرة مروّعة استهدفت اجتماعًا "سرّيًا" لكبار قادة الحزب العسكريّين، "تحت الأرض"، ما أدّى إلى نسف مبنيين بالكامل، وأسفر عن استشهاد وإصابة العشرات، بينهم عدد كبير من القياديّين في الحزب، وعدد أكبر من المدنيّين الذين كانوا آمنين في بيوتهم، أو كانوا يمرّون في المكان المكتظّ بالناس، وبينهم أطفال ونساء.
وإذا كان الجانب الإسرائيلي أراد من كلّ هذه المجازر والجرائم إرباك الحزب وإضعافه، وصولاً لشلّ قدراته، قبل أن يضاعف الضغط من خلال تكثيف الغارات الجوية بوتيرة غير مسبوقة، فإنّ الحزب اختار "عدم الانكفاء"، فاستعاد زمام المبادرة، مطلقًا ما أسماها نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بمعركة "الحساب المفتوح" التي كانت باكورتها قصف حيفا للمرة الأولى منذ تموز 2006، فهل ينجح الحزب في إعادة "التوازن" للمعركة عبر هذا "التكتيك"، أم أنّ ما كُتِب قد كُتِب بكلّ بساطة؟
يقول العارفون إنّ رسائل بالجملة انطوت على الهجوم الصاروخي الذي نفّذه "حزب الله" على مجمع صناعات عسكرية وقاعدة جوية إسرائيلية قرب مدينة حيفا، وإدخال منظومة صاروخية جديدة إلى المعادلة، من نوع "فادي 1" و"فادي 2"، من بينها رسالة صمود، للتأكيد على أنّ المقاومة لا تزال تمسك بأوراق قوة، ولم تسقط كما يحاول العدوّ الإيحاء، ومن بينها رسالة ردع، وفق منطق أنّ التصعيد سيفاقم أزمة المهجّرين، ولن يحلّها كما يتصوّر الإسرائيلي.
بالنسبة إلى الرسالة الأولى، يقول العارفون بأدبيّات "حزب الله"، إنّ الأخير أراد التأكيد على ما قاله أمينه العام في خطابه الأخير، والذي تعزّزت أهميته بعد ضربة الضاحية الثقيلة، لجهة أنّ الرهان على إضعاف الحزب وشلّ قدراته غير مُجدٍ، فهو لا يزال على جاهزيته لكل السيناريوهات والخيارات، وهو بذلك أراد أن يردّ أيضًا على الدعاية التي حاول البعض الترويج لها، لجهة أنه "غير قادر" على الردّ على الهجمات الإسرائيلية المتمادية.
ويوضح العارفون أنّه إذا كان الحزب قد تعمّد في اليوم التالي لما اصطلح على تسميتها بـ"مجزرة البيجر"، استعادة المسار الطبيعي للعمليات على خطّ الجبهة الجنوبية، بل عمل على تكثيفها في مكان ما، من دون أن يوقفها بالمُطلَق بعد الحلقة الثانية من الهجوم على أجهزة الاتصال، فإنّه كان من الطبيعي أن يندفع في الاتجاه نفسه بعد مجزرة الضاحية، التي أودت بحياة "نخبة النخبة" في صفوفه، والتي لم يتردّد البعض في تصويرها على أنّها "النهاية".
وبالتوازي مع هذا البعد المهمّ بالنسبة إلى الحزب، جاء البعد الثاني المرتبط بالردع، حيث أراد الحزب من قصف حيفا تحديدًا، أن يقول إنّه قادر على توسيع مدى عملياته، والوصول إلى حيفا، وربما ما بعد حيفا، وبالتالي فإذا أراد الإسرائيلي أن يتمادى في تصعيده، فيجب عليه أن يتوقّع تصعيدًا مضادًا، بما يفرغ "هدفه المُعلَن"، وهو عودة المستوطنين إلى بيوتهم، من مضمونه، لأن مستوطنات أخرى ستُضرَب، ما سيؤدي إلى توسيع دائرة المهجَّرين.
لكن، بعيدًا عن الرسائل التي يوجّهها "حزب الله" للإسرائيليين، وربما من خلفهم للوسطاء، بأنّ السبيل لعودة المستوطنين يبقى وقف العدوان على قطاع غزة في المقام الأول، ثمّة من يقول إنّ المعركة لم تستعِد "توازنها الفعليّ"، وإنّ رسالة "الردع" تحديدًا لم تكن مجدية، فردّ الحزب بقي "مضبوطًا" إلى حدّ بعيد، بقواعد اشتباك بات واضحًا أنّ الإسرائيلي قد تجاوزها بالمُطلَق، وما هجومه الجوي "الجنوني" على القرى والبلدات اللبنانية سوى الدليل.
يقول العارفون إنّ العدوان الهمجي والوحشيّ يدلّ على أنّ إسرائيل مصرّة على المضيّ بمخططها "الجهنّمي" حتى النهاية، بعدما أعلنت قبل أيام انتقال الثقل الرئيسي إلى جبهة الشمال، في سياق الضغط الذي تمارسه على "حزب الله" لإجباره على التراجع والخضوع لشروطها، بالقوة وتحت النار، وذلك بعد اصطدام كلّ المساعي الدبلوماسية برفض الحزب لأيّ نقاش أو حوار قبل انتهاء الحرب على غزة.
من هنا، تتجّه الأنظار إلى كيفية تلقف "حزب الله" لهذا الموقف، وهو الذي كان قد فصّل ردّه الأخير على قياس عدم الانزلاق إلى الحرب التي يريدها الإس رائيلي، فإذا به اليوم بات في صلبها، علمًا أنّ العارفين بأدبيّاته يشدّدون على أنّه لا يمكن أن يخضع للضغوط الآن، لأنّ أيّ تراجع في موقفه سيكون بمثابة "إعلان ضعف وهزيمة"، وهو ما لا يمكن للحزب الإقدام عليه في هذه المرحلة، حتى لو أراد ذلك في مكانٍ ما.
هو "التوازن" إذًا، لكن وفق مفهوم "حزب الله" للمعركة، لا المفهوم الإسرائيلي، الذي لا يراعي أيّ ضوابط وأيّ قواعد. بمعنى آخر، يريد الحزب أن يصعّد لردع الإسرائيلي، لكنه يريد أن يبقي تصعيده مضبوطًا، ولو اعتمد تكتيكًا جديدًا، يترك فيه الكلمة للميدان حصرًا. قد يكون ذلك مفهومًا في مكانٍ ما، لكنّه يصطدم بالجنون الإسرائيلي المفتوح، والمتسلّح بدعم غربي ولو لم يصل لحدّ "الغطاء"، وما نموذج غزة سوى الدليل على ذلك!.